هل أصبحت “حماس” حاجة اسرائيلية؟
وكالة وطن 24 الإخبارية : تدلّ كلّ المؤشّرات على انفصال قطاع غزّة نهائياً عن الضفة الغربية وعن المشروع الوطني الفلسطيني، بعد خمسة عشر عاماً على الانقسام إثر قيام حركة “حماس” بانقلابها العسكري على السلطة الفلسطينية في صيف 2007، وطرد مؤسّسات السلطة من غزّة، وإقامة دولة خاصة بها. وذلك بعدما نجح الإسلام السياسي مستخدماً وسيلتَيْ الهيمنة والصعود المتناقضتين: فهو من جهة صعد عبر انتخابات برلمانية ديمقراطية نافس فيها وحصد الأصوات التي تؤهّله لتشكيل حكومته الخالصة كما كان الأمر في حكومة إسماعيل هنيّة. ومن جهة أخرى، استخدم القوّة والإزاحة العنيفة في تثبيت أركانه والإطاحة بخصومه وتحويل غزّة إلى منطقة حكم خالصة له، فكانت غزّة أولى تجارب الإسلام السياسي في الحكم الخالص.
لم يساهم الانقسام الفلسطيني في إضعاف المناعة الوطنية فقط، بل وأفقد الفلسطينيّين كثيراً من الهيبة لقضيّتهم العادلة، فاستسهل الإقليم والغرب أن يتعامل معهم بما هو أقلّ كثيراً ممّا تستحقّه القضية والحالة الفلسطينية على المستوى السياسي.
كما هو معلوم، فإنّ السياسة ليست مجموعة مصادفات، بل هي نتاج مطابخ ودوائر وأجهزة تخطّط بهدوء شديد، ولم تكن حركة “حماس” لتقوم بانقلابها في غزّة لولا تخطيط ودعم دول في الإقليم تحت أعين إسرائيل التي عملت بمكر شديد على سيطرة حركة “حماس” على غزّة منذ اتّخذ شارون قراره بالخروج من غزّة من طرف واحد ومن دون التنسيق مع السلطة الفلسطينية.
لم يكن الانقسام الفلسطيني يوماً صراعاً بين فصيلين على سلطة، بقدر ما كان يتّصل بمن يحكم غزّة التي تُعتبر في الجغرافيا هامشاً، لكنّها في السياسة مركز يحدّد من يتصدّر المشهد السياسي
بديل “فتح”
صحيح أنّ حركة “حماس” أُسّست لتكون مشروعاً بديلاً لمنظمة التحرير وحركة فتح، بديلاً أيديولوجيّاً وسياسياً وثقافياً واجتماعياً، ورأت نفسها حركة ربّانيّة مقاوِمة ونخبة مصطفاة ومن أصحاب الأيادي المتوضّئة في مقابل العلمانيين والفاسدين الذين فرّطوا بفلسطين، ثمّ جاء انتقال “حماس” المفاجئ من هامش الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى المركز عقب فوزها في انتخابات 2006 ليشكّل نقطة تحوّل بالغة الأثر في مسيرة الحركة ولتبدأ مشروع دويلتها في غزّة حجراً فوق حجر، إلّا أنّ كلّ هذه العوامل الذاتية لا تكفي لتفسير ما قامت به “حماس” في 2007، من دون أن يكون المختبر الإقليمي قد عمل على قدم وساق من أجل إنجاز الانقسام الفلسطيني وضمان استمراريّته لعقود.
لذلك لم يكن الانقسام الفلسطيني، الذي أتمّ خمسة عشر عاماً من عمره، مصادفة تاريخية أو فائض قوّة من “حماس”، أو مراهقة سياسية، أو جهلاً بوقائع التاريخ والجغرافيا وحقائق السياسة والوضع الفلسطيني المعقّد جدّاً… ومنها أنّ حركة “حماس” غابت عنها، وهي مزهوّة وثمِلة بنصر 2006، بديهيّاتُ العمل السياسي وحقائق النظام السياسي الفلسطيني. ومضت في معركتها السياسية المركّبة مع السلطة وحركة “فتح” من دون أن تتوقّف ولو قليلاً أمام حقيقة أنّ النظام الفلسطيني هو نظام رئاسي وليس برلمانياً، وأنّ الحكومة التي ورثتها “حماس” عن حركة فتح هي الابنة الشرعية لاتفاقية أوسلو التي من أهمّ بنودها الاعتراف بإسرائيل، بقدر ما كان هذا الانقسام مخطّطاً إقليمياً إسرائيلياً.
لم يكن الانقسام الفلسطيني يوماً صراعاً بين فصيلين على سلطة، بقدر ما كان يتّصل بمن يحكم غزّة التي تُعتبر في الجغرافيا هامشاً، لكنّها في السياسة مركز يحدّد من يتصدّر المشهد السياسي. وذلك ليس مصادفة، لأنّه حين يتعلّق الأمر بتقاطع مع المصلحة الإسرائيلية، فلنا أن نتصوّر إلى أين يسير النظامان السياسيان الفلسطينيان في الضفة وغزة. إذ فيما تعمل إسرائيل على زيادة تآكل السلطة في الضفة إلى أبعد الحدود، وعدم إجرائها أيّ لقاءات سياسية مع الرئيس محمود عباس، فإنّ “حماس” صارت مطلوبة (إسرائيلياً!) لتمكين الانفصال بين الفلسطينيين وترسيخ الكيان الفلسطيني في قطاع غزة.
عندما كان قطاع غزّة يحاول التذكير بكونه خزّان الوطنية الفلسطينية من خلال مشروع “المقاومة”، كانت حركة “حماس” تعمل على تحويل مشروع “المقاومة” إلى حالة مفصولة عن هذه المعركة الوطنية، فقط لتعزيز مكانتها وشرعيّتها بما هي بديل قويّ عن حركة فتح والسلطة الفلسطينية.
“غزّة تحمي الضفة”؟
وكما يقول وزير الثقافة الدكتور عاطف أبو سيف، فقد “تمّ تعطيل مقولات وطنية كبرى لمصلحة عبارات مشبوهة تهدف ليس إلى سرقة التمثيل الفلسطيني بل والتنكيل بالذاكرة الوطنية، وتحويل “حماس” ومعها غزّة إلى مرجعية حصرية للمقاومة الفلسطينية والعمل الوطني، وأصبح لافتاً جدّاً أن يتردّد اسم غزّة في وسائل الإعلام أكثر بكثير من اسم فلسطين، وأن يذيِّل الكاتب الفلسطيني المقيم في غزّة توقيعه لمقالته المنشورة في صحف عربية أو إقليمية بعبارة “كاتب من غزّة”.
ومن استمع جيّداً إلى خطاب إسماعيل هنيّة في لبنان يستطيع أن يستنتج بكلّ سهولة أنّ حركة “حماس” ماضية حتى النهاية في فكرة البديل عن السلطة الفلسطينية، وأنّ قرار عدم إنهاء الانقسام قد اتّخذته حركة “حماس”، وهذه المرّة فعلاً لا قولاً.
حسب خطاب هنيّة في لبنان قولاً وسلوكاً، فإنّ دور قطاع غزّة في المعركة الوطنية هو السلاح والصواريخ التي ترتعد منها تل أبيب وتخشاها، وإنّ هذا السلاح أصبح عنصراً “حاسماً” في التوازن القائم مع إسرائيل، وفي حماية الضفة الغربية والقدس كما جرى في معركة “سيف القدس”، وإنّ هذا السلاح يحتاج إلى أعلى دعم من حزب الله وإيران، وإلى التنسيق مع هذا المحور على أعلى مستوى.
لذلك باتت حماية الضفّة وتحرير فلسطين والأقصى يتطلّبان “الحفاظ” على قطاع غزة على ما هو عليه من حالة خارج مسألة إنهاء الانقسام، لأنّ إنهاء الانقسام يعني عودة سلطة أوسلو الخانعة إلى القطاع، حسب التوصيف الحمساويّ، وعودة التنسيق الأمني، وحرمان غزّة من حقّها في المقاومة وتكديس الصواريخ وحفر الأنفاق، وحرمان الكفاح الوطني في الضفة من حماية وضمانة هذا السلاح الذي سيحرّر فلسطين من النهر إلى البحر.
هذا يعني أيضاً أنّ إنهاء الانقسام لم يعّد مسألة مهمّة، ولا ملحّة، ولا راهنة، بل وقد يكون ضارّاً للكفاح الوطني كلّه.
ليس صدفةً أن يتحوّل إنهاء الانقسام في الواقع إلى أحد أهمّ “المنسيّات” الفلسطينية في الشهور الأخيرة. وليس صدفةً أنّ الحديث عن عصر “الانتصارات” من قبل إسماعيل هنية في لبنان، يأتي في “عزّ” عصر الترتيبات والتفاهمات والتوافقات مع إسرائيل للإبقاء على أعلى حالة من الهدوء، سواء في عهد حكومة بينيت أو حكومة وريثه لابيد، وعلى أعلى درجةٍ من الضبط الميداني، وأعلى أرقام لتصاريح العمل في إسرائيل، والتسهيلات الاقتصادية لغزّة ولحركة “حماس”.
عن أساس ميديا اللبناني بقلم :عبير بشير