السلم الموسيقي وراية التوحيد
أيُّ نتيجةٍ لم تتحقق بمساعي البحث عن مؤسسة بإمكانها توفير فرصة تعلُّم الموسيقى لِمَن هم دون الثانية عشر لِأُسَر ذات الداخل المحدود على وجه الخصوص، في مدينةٍ من المفترض أنها حاضنة للثقافة، قبل أن تغدو مركزاً للقرار الرسمي الفلسطيني وذات طابعٍ سياسي وخدماتي، بِفِعل سيطرة ذراع الإخوان المسلمين في فلسطين “حماس” على قطاع غزة عام 2007. يمكن لأي زائر متجول في “رام الله” أن يلمس مستوى الحداثة الذي تشهده المدينة من خلال زيارة منشآت عديدة خُصِصَت للثقافة والإبداع يحمل بعضها أسماء أعلام فلسطينية ثقافية مؤسِسَة، أو المشاركة في فعاليات تتواصل بذاتِ المنحى. أمّا الفقاعة العمرانية التي عصفت بالمدينة فهي لَن تُثقِل على كاهله (الزائر) كونها حاضرة في كُلِّ وجهةٍ يقصدها، لِيعتقد بالنتيجة أن واقع الثقافة بخير حال، كون المدينة جمعت بين البنية الموائمة لنهضة ثقافية حتمية اكتنزتها (موارداً) وباتت تُعرَف بعاصمة القرار (مؤقتاً).
على النقيض؛ فإن الطبقة الوسطى ذات الدور الرئيس في أية عملية تنموية تنشدُها المجتمعات، تمُر في مرحلة اضمحلال مُنذِرةً بهشاشة البنيان الماثل أمام الرائي، القضية (التحدي) الماثِلة أمام صانع القرار بِظل سياسات الإحتلال الإسرائيلي المتربصة بثبات الفلسطيني وحقوقه المُشَرَّعة. هنا وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ بإمكانك أن تقابل مواطناً يقطن في أرقى أحياء المدينة يتنقل بمركبته الحديثة ويرتاد أطفاله مدرسةً خاصة، بذات الوقت لا يملك قوتَ أسرته للنصف الثاني من الشهر، رغم امتلاكه لمساحات من الأراضي الزراعية (المهجورة) في بلدته مسقط رأسه. بالتأكيد فإنَ الحديث هنا لا يستقيم بحال كان المواطن في قطاع غزة حيث حياته رَهنَ مَن سلبوا كرامته، كما مواطنه في مدينة القدس الذي يجابه أبشع مخطط تهويدي يتهدد وجوده وهويته !
انطلاقاً من واقع هذه الطبقة الذي يؤشر لتراجعها الدراماتيكي للطبقة الدُنيا الآخِذة بالاتِّساع، يبدو أنَّ الهرم الإجتماعي والاقتصادي سيشهد اختلال كارثي بإمكانه تعميق الأزمات والتحديات التي تزدحم بمسار البناء، و تتوازى والمسار التحرري مُعِيقَةً لهُ لا مُعَزِّزَة. من الواضح هنا أنَّ المقصود هو الفلسطيني المُتواجِد ضمنَ حدود الأراضي المُحتلة عام 1967، المُنخَرِط في المسارين السابقين تجسيداً لحق شعبه (حيثما تواجد أبناؤهَ) في تقرير المصير، ذاته الإنسان الذي وُصِفَ بالفهم الوطني بأنه الثروة الأهم التي يمتلكها الشعب، وهو حجر الأساس في بناء الدولة المنشودة.
على ضوء ما سبق؛ ودون البحث عميقاً بواقع الفرد في المجتمع الفلسطيني، لنا أن نشير لمنظومتي التعليم والثقافة بمنطلقاتها وعناصرها بالتوازي مع الإعلام كمنظومة مساندة، لندرك أن كافة التحديات المرتبطة بالإنسان هويةً وتكويناً تتصل بفاعلية البرامج والاستراتيجيات الوطنية لكلاً مِن مكونات النظام السياسي المُتجسد بمنظمة التحرير الفلسطينية، ومستوى الأداء في القطاع العام. فكيف للدولة أن تُقام بحال إنسانها الراهن ! في إحدى المؤسسات التي تختص بتعليم الموسيقى فوجِئنا بأمرين؛ الأول هو اقتصار إمكانية التكوين الثقافي للشخصية على أبناء الطبقة العليا (المُنعزلة) على اختلاف مناحيه، بِظل الميزانية المتواضعة المُعتمدة (خجلاً) لقطاع الثقافة والتي تنفق بنسبتها الأكبر على الرواتب واللوجستيات لا البرامج والمراكز المتخصصة، وعليه كيفَ لابن عامل أو فلاح أو موظف بسيط أن يطمح لتعلم الموسيقى أو الانخراط بنادٍ رياضيّ للمحترفين أو حتى المشاركة في مخيمات صيفية تدعم عملية بناء الإنسان و الثقافة الوطنية، حيث القسط الشهري لهكذا برامج يعادل ثلثي دخل ذويه في أحيان كثيرة، الثاني هو اشتراط المانحين الدوليين على مشرفي تلك المراكز اعتماد وثيقة تنبذ (الإرهاب) مقابل تقديم الدعم لها، أي أن مواجهة الإحتلال تندرج بمقياس تلك الوثيقة ضمن أعمال العنف والإرهاب !
الوجه الآخر والأشدُ إيلاماً؛ أن أولئك الذين من المفترض أنهم الامتداد الأصيل لِمَنْ صاغوا الوطنية الفلسطينية هويةً وقرارا، وبذات المدينة (مركز صناعة القرار الوطني) وأثناء فعاليةٍ أتت بسياق ردود الفعل، رفعوا الراية الحزبية المتضمنة لِأحد الأركان العقائدية (التوحيد)، تلك الراية التي خالفت العُرف الفتحوي بِإبراز شعار “العاصفة”، وصُبِغَت باللون الأصفر إبان إنشاء مؤسسات السلطة الوطنية تحديداً بين عامي 1995-1996، الموقف الذي دفع بعديد (النُخَب) للبحث في إمكانية تحول حركة “فتح” لتنظيم إسلاموي ! الحركة التي لفظت كافة الأيدلوجيات لصالح القضية الوطنية المركزية، واعتمدت العلم الراية الأساس، وبالمرونة مبدأً تصدت للجمود، وعن حرية المعتقدات دافعتْ، وللقبلية والجغرافيا معياراً لَفَظَتْ.
بين استحالة فرص أن ينشأ إنساننا ببيئةٍ ثقافية داعمة، وفقدان الحركة الوطنية لدورها الرئيس في صياغة وصون الوعي العام وحماية الهوية الوطنية، يبقى المُحتَل هو المُتصدر في عملية تشكيل الصورة النمطية للفلسطيني (الإنسان) فهو البطل إن كان طفلاً مغتالاً، وهي المتبلدة بأمومتها إن فقدت المرأة ابنها شهيداً أو أسيرا،ً حيث ذرفع الدموع ألماً فعلاً منبوذاً. والكثير بسياق إظهار الفلسطيني متطرفاً إرهابياً فاقداً لمقومات الإنسانية، وبالتالي تُشَوَّهْ عدالة قضيته وتُسلَبْ مشروعية حقوقه، فلا هو عازف مُحب للحياة، ولا هو ساقٍ للشجر في حيّه، ولا هي لاعبة تنس أرضي تمثل شعبها بالمحافل، ولا هو ناظِم لأبيات عن الحب تتحدث، ولا هي صبية تتمختر متباهيةً بزهو الألوان على ثوبها الذي ورثته عن جدتها، فالحياة هنا لذوي السطوة والجاه ومهارة الكَنْز و(النَتْشْ) رُهِنَتْ.
بقلم : ميساء أبو زيدان