حماس والمفاوضات: فاتورة الدم


طوال حرب الإبادة وسلسلة جولات التفاوض للتوصل إلى اتفاقات وقف إطلاق النار، تعاملت حماس مع عنصر الوقت بشكل يميل إلى المقامرة، إذ راهنت تارةً على متغيرات دولية، وتارةً أخرى على تأثير جبهات الإسناد. وفي كلتا الحالتين كانت النتيجة، للأسف، صفرية؛ فالمراهنات أدت إلى تآكل الفرص، وصولًا إلى ما يصبّ في صالح حكومة اليمين التي انتهزت الفرصة لكسب الوقت، وهو الوقت ذاته الذي كانت حماس تراهن عليه فعليًا — بمعنى انقلاب السحر على الساحر. وهذا ما حققه نتنياهو الذي يحتاج إلى الوقت ليُعلن إنجازًا واضحًا أمام الجمهور، يكون بمثابة قارب نجاة للخروج من أي مأزق قانوني مرتقب.
في كل مرة كانت حماس تحاول كسب الوقت، كانت الخسائر في الأرواح والممتلكات تزداد، وتقضي على ما تبقى من فرص الحياة في قطاع غزة، دون أن يتحقق أي اختراق أو تقدم تجاه رؤيتها لوقف المجزرة.
وفي كل مرة أيضًا، كان الاحتلال يكسب بعضًا من أسراه دون أن يقدم أي شيء فعليًا، سوى “أسرى مقابل أسرى”. لم يُسمح بنقل معدات لرفع الأنقاض، ولا بدخول متطلبات الحياة، ولا بإصلاح شبكات الكهرباء أو المياه، ولا بإعادة تأهيل المستشفيات أو المدارس، بل مُنعت حتى المنازل المؤقتة للإيواء. لم يتحقق من الاتفاقات سوى النزر اليسير، وحتى الأسرى الذين أُفرج عنهم وأُبعدوا إلى الخارج يعيشون في ظروف مأساوية لا تختلف كثيرًا عن السجن، أما من أُفرج عنهم إلى الضفة أو غزة، فهم بانتظار دورهم في عداد الموتى، لا أكثر. ولا أحد منهم يعيش حياة حرة بمعناها الحقيقي.
كل ذلك يعيدنا في كل مرة إلى المربّع الأول؛ لا تقدم حقيقي، وحماس لا تبرح مكانها في طريقة التفاوض. وحتى عندما يتطلب الأمر العناد، فهي تلجأ إليه بطريقة لا تؤتي ثمارًا على الإطلاق. وهذا يستوجب وقفة صادقة، وإعادة نظر شاملة في منهج التفاوض من جذوره.
الآن، حماس تتبنى موقفًا يقول: “صفقة شاملة والكل مقابل الكل”، وتُصرّ على خطة واضحة لليوم التالي. لكنهم يدركون جيدًا استحالة تحقيق ذلك في ظل المعطيات، ويدركون أن التأخير في حلحلة الوضع القائم سيفضي إلى تحقيق رؤية نتنياهو بإكمال مسلسل التدمير والقضاء على أي تشبث للغزي بأرضه. بل قد يفتح ذلك المجال أمام صلاحيات مفتوحة من ترامب لتنفيذ مخططات تنهِي القضية بطريقة شرسة، دون أي حامية حقيقية للشعب الأعزل، ودون تحقق الحد الأدنى من الأهداف التي يمكن أن تواسي هذا الشعب المكلوم، الذي دُمّرت حياته بالكامل.
يظن البعض أن دعواتنا المتكررة لـحماس بالتعقل والحكمة والابتعاد عن الخطابة والشعارات هي نوع من الخصومة أو العداء، بينما الحقيقة أن الأمر يتعلق بحياة مليوني إنسان يتعرضون للقتل اليومي بسبب خطوة أقدمت عليها حماس. ومهما كانت المبررات، ومهما زعم البعض أن القتل مستمر سواء بوجود حماس أو بدونها، لا يمكن إنكار أن خطوتها كانت صادمة، وأفسحت المجال لليمين المتعطش للدماء لتحقيق كامل أهدافه ضد الوجود الفلسطيني.
لقد تُركت القدس تنهشها مخالب التهويد، والضفة تُصادر أراضيها، وتفاصيل كثيرة كانت غزة — ولو نسبيًا — تعطلها قبل نكبة أكتوبر، باتت اليوم مستباحة بالكامل. وما يتواجد على الأرض في غزة الآن هو جيوب مقاومة لا تغيّر المعادلة، ولا تشكل عنصر ضغط تفاوضي، وحماس تدرك هذه الحقيقة داخليًا، لكن يبدو أن فريق التفاوض لديه رؤية مختلفة، أو أن التقارير التي تصلهم مغايرة للواقع.
فما المطلوب من حماس إذًا؟ هل ما ندعو إليه هو تسليم سلاح المقاومة كما يروج البعض؟ كلنا ندرك أن السلاح الأبرز للمقاومة قد دُمّر خلال هذه الحرب. الصواريخ أُطلقت، وما تبقى منها دُمّر، والأسلحة الخفيفة لا تُعدُّ سلاحًا يُطالَب بتسليمه في مقاييس الدول، فهي لا تعدو كونها سلاحًا شرطيا بالكاد يضبط الوضع الداخلي. أما الأنفاق، فقد دُمّر معظمها. ومع ذلك، لا أحد يطالب بتسليم السلاح، بل بالتعامل مع الواقع.
يكفي التحدث بلهجة الغائب عن الواقع، والإصرار على خريطة لليوم التالي. يجب فهم الظروف المحيطة. إساءة فهم هذه الظروف مجددًا قد يودي بالمستقبل الفلسطيني إلى غياهب النسيان.
لقد كانت هذه الحرب نتيجة خلل في تقدير الظروف الدولية والإقليمية، والاعتقاد الخاطئ بأنها تسمح بخوض حرب بهذه الجنون. وهذا ما أشار إليه صالح العاروري قبل اندلاعها بأشهر، من بيروت. واليوم، يجب على قيادة حماس أن تدرك أن الظروف كافة — إقليمية، ودولية، ومحلية — تستوجب وقف الحرب، وبأي ثمن.
فما العمل إذًا لتجنب عملية عسكرية دموية تؤدي إلى تهجير وقتل من تبقى في غزة؟
أولًا، يجب فهم عنصر الوقت. نتنياهو ماضٍ في إنهاء الحرب، عاجلًا أو آجلًا، لكن بطريقته، وبالوقت الذي يخدم مصالحه. لذلك، من الحكمة أن تتعامل حماس بالمثل — أن تكسب الوقت. كل صفقة جزئية ومحدودة هي مكسب للوقت وحقن مؤقت للدماء، وهي أيضًا خطوة واسعة باتجاه إنهاء الحرب؛ لأنها توقف النزيف لفترة قابلة للتمديد، ويجب استغلالها جيدًا.
فالنهاية هي ختام الحرب، بالصورة التي يريدها نتنياهو. وبدلًا من منحه هذا الختام ضمن رؤيته، ومن خلال شلالات الدم، يمكننا أن نحصل على الوقت بما يعطّل عجلة الحرب وصولًا إلى وقفها التام. هذا هو الفهم المنطقي للظروف المحلية والإقليمية والدولية.
حماس تريد خطة واضحة لليوم التالي، بينما يعيش الناس مذبحة الحاضر. ما يشغل حماس وساستها لا يشغل المواطن الذي يتعرض يوميًا للقتل والتدمير والتهجير.
ما يجري في العالم حول غزة تَقزَّم إلى مجرد نقاشات حول دخول مساعدات وغذاء، أليس هذا تقزيمًا مهينًا؟ أن يتحوّل الشعب الفلسطيني إلى شعبٍ جائع، يُخطَّط لإطعامه وتُحدد له السعرات الحرارية! ماذا تنتظرون أكثر من هذا التقزيم لقضيتنا الوطنية؟
فاوضوا على صفقة جزئية تُبقي لديكم رصيدًا للتجديد، وكلما كسبتم الوقت، أنقذتم الشعب من هول التدمير، وعطلتم آلة الموت، وصولًا إلى وقف كامل للحرب — آجلاً أم عاجلاً. فلا حرب تستمر إلى الأبد. اكسبوا الوقت، فالوقت في غزة نارٌ ودماء.
عن حساب الكاتب على فيسبوك