“أبو عمار” صديق المثقفين

 

“عظمة هذه الثورة أنها ليست بندقية، فلو كانت بندقية فقط لكانت قاطعة طريق، ولكنها نظم شاعر وريشة فنان وقلم كاتب ومبضع جراح وإبرة لفتاة تخيط قميص فدائييها وزوجها”، هذا ما اعتاد الرئيس الشهيد ياسر عرفات ترديده في المحافل الثقافية التي حرص على حضورها، كما يقول مثقفون.

وأجمع المثقفون، الذين التقتهم “وفا” على اهتمام الرئيس الشهيد عرفات بالثقافة والمثقفين في مختلف الأعمار والمواقع والاتجاهات، باعتبارها (الثقافة) جزء لا يتجزأ من الثورة، وأن القصيدة والقلم يسيران جنبا إلى جنب مع بندقية الثائر في مسيرة الثورة الفلسطينية.

ويقول الروائي يحيى يخلف (76 عاما) أن “أالأخ أبو عمار”- اللقب المفضل للرئيس عرفات- كان يحرص على تعزيز الجانب الثقافي في الثورة الفلسطينية ويدعم ترجمة وطباعة ونشر الكتب السياسية والأدبية والفكرية بشكل مباشر أو عبر مركز الأبحاث الفلسطيني، ويرعى فرقا فنية مثل فرقة أغاني العاشقين وغيرها، إضافة إلى صرف منح تعليمية لطلاب فلسطينيين في الأرض المحتلة والشتات.

وكشف يخلف، الذي عمل وكيلا لوزارة الثقافة في الحكومة الأولى بعد قيام السلطة الفلسطينية (1994) – قبل أن يكون وزيرا – أنه منذ تشكيل الحكومة الأولى كان أبو عمار على تواصل دائم معه للسؤال عن المشاريع والأنشطة الثقافية ومشاركة فلسطين في فعاليات ثقافية خارج الوطن. بجانب رعايته لأي نشاط لا تستطيع موازنة الوزارة تغطيته.

وأشار يخلف، الذي فاز برئاسة الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين (1980) أن أبا عمار كان يولي الاتحاد العام للكتاب أولوية خاصة عن الاتحادات ويهتم بتفاصيل انتخابات الأمانة العامة له، كما كان المثقفون يتمتعون باهتمام بالغ بل وبعلاقات صداقة مثل محمود درويش وغابرائيل غارثيا ماركيز ومعين بسيسو وجمال الغيطاني وأحمد دحبور ومحمد حسنين هيكل وأمل دنقل وغيرهم من قامات أدبية عربية وأجنبية بما في ذلك المعارضة منها مثل “شعراء رصيف“.

الروائي زياد عبد الفتاح قال في لقاء سابق مع “وفا” إن الرئيس عرفات وافق على تمويل طباعة مجلة أدبية لشعراء “رصيف” وحملت نفس الاسم “رصيف”، رغم أنها لمعارضين له مثل رسمي أبو علي وعلي فودة الذي استشهد في قصف اسرائيلي خلال عدوان 1982 على بيروت.

وفي مقالة نقدية على (بوابة الهدف)، الأسبوع الماضي، أشار الناقد والشاعر الفلسطيني عبد الرحمن بسيسو إلى أن روايتي “حبيبتي ميليشيا” لتوفيق فياض (1976) و”الآتي من المسافات” لسلوى البنا (1977) قد صدرتا عن الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين ربما تكونان نموذجين لروايتين تنتقدان قيادة الثورة.

وأضاف بسيسو، سفير فلسطين الأسبق في سلوفاكيا، في مقالته بعنوان “ليس هذا ما أردنا نقد “قيادة الثورة” في ثلاث روايات فلسطينية (في الرابع من تشرين ثاني الجاري)، أن الروايتين صدرتا عن الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين.

ويرى خالد هباش، 62 عاما، أحد مؤسسي فرقة “أغاني العاشقين الفلسطينية” أن الرئيس ياسر عرفات كان يهتم بتعزيز الهوية الثقافية الفلسطينية، كاشفا عن تجربة ثرية لاهتمامه بالأنشطة الثقافية المختلفة سيما الأغاني الشعبية والوطنية.

يقول هباش، إن “الأخ أبو عمار” قد تبنى فرقة أغاني العاشقين بعد أن تعرف عليها في حفلة عدن عام (1983)، وقرر صرف مكافأة شهرية من الصندوق القومي عبر دائرة الاعلام والثقافة التي كانت تحت مسؤولية عبد الله حوراني.

وكان أبو عمار يلتقي بين الفينة والأخرى بالفرقة سيما بعد عودتهم من جولات في مختلف قارات العالم، يشجعهم ويكرر عليهم أن الفرقة سفراء لفلسطين في العالم، ويتكفل بتكاليف انتاج الأغاني الثورية. ويوصي القيادات الفلسطينية المختلفة على عائلتنا. “ديروا بالكم على هذه العائلة، نحن بحاجة لها”… وكانت بدايات فرقة العاشقين تتكون من أبناء “أبو خليل هباش” وعددهم ثمانية 6 أولاد وفتاتين.

كان يؤكد لنا دوما على أهمية الهوية الفلسطينية التي تعززها الأغاني التراثية والوطنية، ويكرر أن لا غنى عن أدواتنا الموسيقية وأغانينا الثورية والتراثية التي تسير جنبا إلى جنب مع البندقية،” قال هباش، الذي يعمل الآن مسؤول الثقافة في القنصلية الفلسطينية في دبي.

 ويقول، إنه يذكر بعد حفل أقامته الفرقة في عدن 1983، سلم الرئيس عرفات على أحد أفراد الفرقة ومسكه من شعره يداعبه وكناه بـ”أبو الثنتين” ويقصد بها الذي يعزف على اليرغول والقانون، ثم أوصاه عرفات بأن الفرقة ستكون الفرقة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكان يتكفل بتغطية السفر والإقامة لأعضائها بشكل مقنن، “ممنوع البذخ ولا يجب أن نحتاج أحد“.

وفي لقاء خاص قدمه تلفزيون فلسطين يقول ملحن أغاني الثورة الفلسطينية مهدي سردانة (1940-2016)، إن الفنان الفلسطيني كان يلقى اهتماما خاصا من قياديي حركة فتح. وفي إشارة للشهداء ياسر عرفات وخليل الوزير وصلاح خلف وفؤاد ياسين سردانة في اللقاء المنشور على موقع يوتيوب (21-5-2015) يقول سردانة: “كبار القمم في فتح احتضنوني… كانوا يتابعونني ويقولون لي هذا صح وهذا خطأ“.

أما من منظور الفن التشكيلي فقال الفنان الفلسطيني عصام حلس، نائب رئيس الاتحاد العام للفنانين التشكيليين الفلسطينيين، إن الرئيس ياسر عرفات لم يكن ثائرا أو سياسيا فقط؛ بل مثقفا حريصا على دعم الثقافة بمختلف حقولها سيما الفن التشكيلي.

ويعتقد حلس، 65 عاما، أن الاهتمام بالجانب الفني بدأ غالبا باستخدام الملصقات “البوسترات” للانضمام لقوات الثورة الفلسطينية في المخيمات الفلسطينية في “دول الطوق”، حيث كانت البوسترات هي الطريقة الأسرع للانتشار بما تحمله من عبارات تشجيعية مثل: “هل أنت منتمي للثورة؟” و”انضم لأبناء فلسطين…”.

وكشف حلس، المقيم في غزة، أن أبا عمار كان متابعا للفنانين وأخبارهم ومعارضهم، “افتتح أبو عمار معرضي في جامعة بيروت العربية 1979، كان يهتم بجميع الفنانين يساريين ويمينيين وغيرهم، يشارك في افتتاح معارض وأمسيات ثقافية وأفلام سينمائية.”

وأضاف أن الرئيس عرفات بارك ودعم الفكرة التي طرحها له أواسط الثمانينات القاضية بإنشاء جمعية الفنانين التشكيليين بغزة، وعندما عاد إلى غزة رفضت قوات الاحتلال منح الجمعية ترخيصا. وهنا لجأ حلس، وآخرون، لإحدى الجمعيات المحلية ومارسوا أنشطة عبرها وكان الرئيس عرفات يرسل دعما ماليا لهم بطرق التفافية عبر هذه الجمعية.

ولفت الفنان حلس إلى أن أحد أبرز مؤشرات اهتمام عرفات بالجانب الثقافي هو تأسيس مركز الأبحاث الفلسطيني الذي بدأ بتوثيق كل شاردة وواردة لها علاقة بالثقافة الفلسطينية قبل وبعد النكبة. “لقد كان أبو عمار يرى أن صراعنا صراع ثقافي لا يقل ضراوة عن الحقول الأخرى”.

وأضاف: أن أبا عمار كان يعرف جيدا أهمية البعد الثقافي، لذا عند عملية تبادل الأسرى بين م. ت. ف. والاحتلال 1983، اشترط عودة محتويات المركز التي نهبها الاحتلال.

وكانت م. ت. ف. عقدت اتفاقية تبادل أسرى في نوفمبر 1983 أفرجت دولة الاحتلال بموجبها عن 4700 من الأسرى الفلسطينيين والعرب وأرشيف ومكتبة مركز الأبحاث مقابل 6 جنود اسرائيليين.

وتابع أن الرئيس عرفات كان بالعموم يتابع بدقة انتخابات الاتحادات والنقابات سيما “الفنانين التشكيليين” و”الكتاب والصحفيين”، ويحرص أن يكون رئيس الاتحاد شخصية وازنة ذات ثقافة عالية لأنها ستمثل فلسطين في الأوساط الدولية.

لم تكن شادية محمد اللحام قد تعدت العشر سنوات من عمرها عندما التحقت بمدرسة “بيت إسعاد الطفولة” في لبنان للتعليم المدرسي ولتتعلم الدبكة الشعبية وممارسة أنشطة ثقافية أخرى.

تقول شادية التي تجاوزت الخامسة والخمسين ربيعا، إن الرئيس عرفات اعتاد أن يزور المدرسة، في جبل لبنان، ويتفقدها برفقة مديرها الفنان عبد الله داوود، متمحصا الأنشطة الثقافية سيما الدبكة الشعبية والأغاني الوطنية.

وتضيف شادية، المقيمة حاليا في غزة، أن الرئيس عرفات كان كلما يأتي يشارك التلاميذ الدبكة الشعبية ويستمع لهم ينشدون. “أكثر الأناشيد التي كان يهتم بها هي (والله شفتك يا علمي زينة رايات الأمم)”، قالت شادية لـ “وفا”، مضيفة أن هناك أنشطة ثقافية أخرى مثل الرسم والتطريز.

وتذكر شادية اللحام كيف كانت المدرسة رافدا مهما لزرع الثقافة الفلسطينية على الرغم من بعدها عن فلسطين، عبر أنشطتها المختلفة بدءا بالإذاعة المدرسية بإدارة زعل أبو رقطي وليس انتهاء باحضار معدات عرض الأفلام “سينما” للمدرسة وعرض أفلام وطنية.

بقلم : سامي أبو سالم

زر الذهاب إلى الأعلى