مَنْ نُخاطب!
وكالة وطن 24 الإخبارية : التفوق والعنصرية سمتان ميّزتا ثقافة مكوناتٍ عديدة في الغرب، تظهران لدى سياسيين وإعلاميين والكثير مِمَنْ ينخرطون في تحديد العلاقة بين غربهم والشرق الذي وصموه بـ(العالم الثالث)! فتُفنّدا حقيقة الروابط التي كانت نتاج جهد ودأب قادة شرقنا بمجالات عِدّة وعلى مدار عقودٍ خَلَتْ، السياسي والدبلوماسي أبرزها. الحقيقة التي تَكشّفت (كما يحدث دوماً وبمناسبات مختلفة) فور إجابة الرئيس “محمود عباس” على سؤال أحد الصحفيين خلال المؤتمر الذي عُقِدَ بينه وبين المستشار الألماني، فما أنْ ذكَّر هذا الغرب المُتَحضِّر بجرائم الحرب المُرتَكبة بحق الشعب الفلسطيني المتواصلة منذ ما يُقارب القرن على يد ضحايا النازية، ولمجرد مُخاطبتِه بموضوعية بعيدة عن المساس بالكرامة الإنسانية أو تزييف التاريخ أو سلب الحقوق، ثارت حفيظة الغرب (العالم الأول) وانبرت الحملات الحانقة من قلب مشروعه بالتبني.
أمّا على الصعيد المُقابل؛ لدينا نحن الفلسطينيّون تحديداً فقد كانت ردود فعلنا (بخلاف بعض الحراكات الجماهيرية الفاعلة) على تلك الحملة التي تزداد تطرفاً وعنصريةً، دونَ مستوى العبارة التي أفقدت غرباً بأكمله رصانته وكشفت اللثام عن جوهر مواقفه، فالكثيرٍ منها جاء ليُبرهن على فلسطينية الرئيس أبو مازن ويؤكد على وطنيته! بعضها الآخر تنوع بين التنديد عبر وسائل مختلفة، أو إثبات ما ارتُكِبَ من مذابح ومجازر (هولوكوستات) مسحت عشرات القرى والبلدات عن الوجود على يد العصابات الصهيونية، في استحضارٍ لصور عن جريمة التطهير العرقي التي مورست بحق شعبٍ لا زال يُذبح ويُسلب الحرية والحقوق.
لقد أبرز الموقف قصور فعلنا، حيث انحصر الرد وكأن ما حدث لا يتخطَ استهداف شخص الرئيس، أو موقف الغرب المنحاز المُعتاد! وكأنه إعلانٌ ضمنيّ عن الانكفاء على الذات؛ فلا القراءات المعمّقة للآخر، ولا المتابعات المهنية الراصدة للموقف، ولا الأطر الحامية لجوهر الفعل الجماهيري أسعفتنا بإيصال حرفنا للآخر المستعرّ احتلالاً، أو مكنتنا من اللغة التي بمقدورها أن تضع هذه المنظومة الدولية أمام مسؤولياتها، حتى أن جملة الحراكات الهامة لم تدفع حكومة “أولاف شولتس” لتراجع مواقفها تجاه القضية الفلسطينية، أو حتى تحميلها وسابقاتها ما اقترفته ألمانيا النازية من جرائم تَسببت (بالنتيجة) بمأساة الشعب الفلسطيني المستمرة ليومنا هذا.
وبهذا المقام نستذكر كيف استطاع قادة الثورة المُعاصرة قراءة الصراع جيداً، لِيقرروا حينه التحرر من الفلك الذاتي، فاعترضوا منهج مخاطبة النفس، وأوقفوا هدر المُقّدّر بمساراتٍ لم تُقدم على مذبح فلسطين الحرّة ما ينفع، ما أدى بهم لإدراك معاول الفعل الوطني بالشكل الذي مكّنَهم من توظيف الإرادة الشعبية لصالح القضية الوطنية. هكذا يغدو الرئيس الفلسطيني، ثابتاً واضحاً مُكاشِفاً في كل ميدان وموقف، لإدراكه المُعمَّق للآخر، ولاستناده على إرادة الشعب، وحرصه على درء التضحيات الجِسام من التلاشي.
هو يعيّ تماماً (الرئيس) مواطن الهشاشة لدى الآخر ودُثَرِه، ويعلم كيف تُصاغ الحروف التي بإمكانها أن تخترق صمم إنسانيتهم الظاهرة، وكيف يدفعهم متشارسين الهجوم على الصادق من حرفه مدافعين عن الضحية الدور، فينزع عنهم مبرر استنساخ محارق عديدة بحق الشعب الفلسطيني وبظل التقدم والمدنية! فتعبير (المحرقة) هو وصف دقيق لعمليات القتل العنيفة لمجموعات كبيرة من الأفراد، وهو ما يتعرض له الفلسطيني منذ القرن، أم أنه لم يرتقِ في عقلية الغرب المُتصهين لصفة الإنسان فيمرّ عابراً كل جُرمٍ ارتُكِبَ فيه!.
ومع ذلك كله لا زال جلد الذات مهارةً يتشدق بها كُل مَنْ امتهر الوطنية والتفوق شعوراً، مفتقدين الانتقاد الذي يجلي الحرص والقلق على مكانة القضية الوطنية، فلم نعد ندرك أن المسار الوطني باتَ عالقاً بين سندان الاحتلال ومطرقة العامل الذاتي، حتى أن صدامنا انحرف بمستوياتٍ عديدة نحونا (نحن)، بظل الانغماس المضني في التفاصيل التي وبجلها تأتي النتاج الفعلي لما ألَمّ بالشعب الفلسطيني منذ أن سُلِبوه ارضه واستهدفوا وجوده، سيّما وأن خطابنا وجهناه لنا نحن، فنعيد على مسامعنا أننا الضحية، ونُذكّر أنفسنا بأننا نواجه أبشع وأوحد احتلال على وجه البسيطة، وسط عالمٍ متسارع في خطاه نحو التغيير، التغيير الذي نشكل فيه القلب شاءوا أم تجاهلنا.
ختاماً؛ إنْ لم يرتقِ الحرف لمستوى خطابنا في برلين (الذي قضّ بالفعل مضاجعهم)، وإنْ لم نؤطر الفعل ضمن أروقة منظمة التحرير الفلسطينية، وإن لم نحمِ مقدراتٍ بُنيّتْ بالغالي مما امتلك الشعب ونُصَرّ على إقامة الكيانية الوطنية، فإننا سنُصادِف الكثير من ال”غانتس” واستحقاره المُدمي، وستُقام العديد من ال(رامونات) مَقاصِلٌ لهويتنا، وسيُضاعف ويُعمَّق صوتنا ذاك الذي هدر على معبر (ترقوميا) لافظاً في وجه دمائنا النازفة كل كرامة.
بقلم: ميساء أبو زيدان