موتُ أبناءِ القيادات وجدوى التضحيات الجماعيّة في قطاع غزّة

كتب عزمي الخال

تتبدّى في الحروبِ والصّراعاتِ ظواهرٌ إنسانويّة تؤثّرُ/ تتأثرُ في الخطابِ الجمعيّ ومفرداتهِ وتعبيراتهِ وتتفاعلُ معه تفاعلًا حيويًّا، فالخطابُ الجمعيّ في الحروب يُصبِحُ مُرسِلًا ومُستقبِلًا في آنٍ واحد، ويتضمّنُ هذا الخطابُ انفعالاتٍ آنيّةً لها دلالاتها الأخلاقيّة؛ وهي انفعالاتٌ تذمريّةٌ جرّاءَ الأهوالِ التي تَستبدُّ بالشعوبِ مِنْ موتٍ ودمارٍ وجوعٍ واستشراءٍ للأوبئةِ وتشرُّدٍ ونزوحٍ، فيما يَظلُّ الخطابُ السياسيُّ فوقيًّا مُتعاليًّا مُنحصرًا بالرؤى الاستراتيجيّة للفصيل أو الجماعة، مُعيدًا استخدام (الكليشيهات) التي تُعبِّرُ عن تضامنهِ المعنويّ مع الضحايا دونَ أيّ تخطيطٍ واقعيٍّ لـ”محو آثار العدوان”.

لقدْ أنتجت الحرب في قطاع غزّة مفاهيمًا سرياليّةً تتعدّى ما يتمركز حولهُ المثقفونَ والمفكّرونَ والإعلاميّونَ من مصطلحات وتحليلات واستقراءات تُدغدغ الذات الجمعيّة، وعلى وجه الدّقة؛ التضحيّة بوصفها فعلًا فرديًّا بطوليًّا محمودًا مُستحسنًا لدى العامّة؛ وهذا ما تحاول الصور والمشاهِد إبرازه لتعضيد معنويّات هذه الذات، إلّا أنّ التضحيةَ الجماعيّةَ ليست أمرًا توافقيًّا؛ نظرًا لاختلاف الرؤى والمسارات والأفكار والقناعات حولَ الحياة وقيمتها وضروريّتها وماهيّتها لدى سكّان قطاع غزّة الذينَ يتمايزون بالآراء حيالَ عمليّة السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل الماضي.

يقودنا التمايزُ الذي ذكرناه آنفًا إلى الغوص في تحليل البنيّة (السوسيولجيّة- السيكولوجيّة) في قطاع غزّة التي ذهبت مذهبًا راديكاليًّا؛ نتيجة لتعرّضها لكمٍّ هائل من العنف التدميريّ الذي استُخدم استخدامًا انتقاميًّا في البدء، ثم أضحى موجّهًا بما بتلاءم مع الهندسة العكسيّة لدولة الاحتلال الإسرائيليّ في إعادة تشكيل قطاع غزّة كمجال حيويّ لا يُنتجُ أجسامًا عسكريّةً ذات طابع تهديديّ، فهذه البُنيّة تعرّضتْ إلى انشطارٍ مفاهيميّ حول فاعليّة أو ضرورة أو جدوى هذه العمليّة (عمليّة السابع من أكتوبر) قياسًا بفداحة الثمن البشريّ والماديّ الذي يُجبى من سكّان القطاع.

وهُنا؛ نجدُ أنّ مفهوم التضحية الجماعيّة لم تعد مطلبًا عامًا للاندماج في الفعل المقاوماتيّ سواءٌ أكان من القيادات وأبنائهم أو من العامّة، فاغتيال أبناء رئيس المكتب السياسيّ لحركة (حماس) اسماعيل هنيّة لنْ يُدعِّمَ موقفَ الحركة ومصداقيّة قياداتها لدى سكّان قطاع غزّة الذين لا يكترثون للبراهين أو الدلائل من قبل قيادة حركة (حماس) السياسيّة والعسكريّة في السياق التعبويّ- الدعائيّ لترميم خطاب ما بعد السابع من أكتوبر، فهذه البراهين كان الفلسطينيّون أحوج إليها حينما كان الزمنُ التحرّريُّ خصبًا، ووقتما كانَ المساواتيّة في التضحيات ضرورةً لحشد العامّة وصهرها في بوتقة مشروع وطنيّ/ تحرّريّ؛ عبر نمذجة القيادات وتنميط سلوكيّاتها باعتبارها أنموذجًا يُحتذى للفاعلين في هذا المشروع.

أمّا بالنسبة لمن هم خارج القطاع؛ فقد رأوا في اغتيال أبناء (هنيّة) رسالةً لـ(الغير الذي أبدى معارضته لعمليّة السابع من أكتوبر)، وجعلوا من هذا الاغتيال مُرافعةً تاريخيّةً؛ لإثبات المساواتيّة في التضحيّة بين القيادة والشعب؛ عبر ضخّ المواد المرئيّة التأثيريّة، والعبارات التأنيبيّة، وإسباغ السِّبغة البطرياركيّة على قادة الفصائل؛ وذلك من خلال استدعاء المضامين والنصوص الدينيّة التي تُضفي قدسيّةً على هذه الأحداث؛ بما يحول دونَ التعامل معها تعاملًا نقديًّا/ تفكيكيًّا، ويمنع أيّة تساؤلات أو استفسارات.

حماسغزةهنية