غزة حتى الآن أَهي صمود وإنتصار ؟ أَم موتٌ ودمار ؟ أَم ماذا ؟

بقلم – جمال الشاتي شباط / 2024

يقف الإنسان هذه الأيام وقلبه يقطر دماً من هول الجرائم والدمار والإبادة ، ويقف إجلالاً لأرواح الشهداء الأكرم منّا جميعاً ، ويقف مندهشاً أمام عَظَمة المُصاب الفلسطيني الجلل ، ويقف متفاخراً بوطنيّته الفلسطينية وصدق إنتمائه ، ولكنه يقف أيضاً حائراً في إختيار لغة التوصيف لواقع الحال في غزة ، وأكثر حيرة عند محاولة تصوير وقائع الأحداث للمشهد الراهن بشَقيْه المتزاحميْن :
1)شق إخراج المثلثات الحمراء المقلوبة .
2)شق الإبادة ومعاناة أهل الخيام المثقوبة .
ومن هذا المنطلق فلا يجوز لأحد أن يرى نصف وجه غزة المقاوم ، دون أن يرى نصفه الآخر المُدَمَّر المذبوح ، وليس من الإنصاف أبداً الإستمرار في وصف أهالي غزة بالأبطال الصامدين الخارقين العابرين للقارات ، دون النظر للوصف الآخر بالمقتولين المقهورين المهجرين العُراة التائهين الهائمين فوق الرمال ، ودون النظر أيضاً للفقر والجوع والبرد والحرمان من الماء والغذاء والدواء ، وتفشي غلاء الأسعار الفاحش بفعل اللصوص وتجار الحروب ، فَأهلنا في غزة هُم الذين دُمّرَت وسُرِقَت بيوتهم ومنازلهم ، وهُم الذين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ، وهُم الذين يعيشون حياة البؤس في خيامٍ لا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء ، وهُم الذين غاب شهداؤهم دون نظرة وداع ، نصف جثث الشهداء تحلّلت تحت الأنقاض ، ونصفها الآخر نهشته القطط والكلاب في الطرقات ، وهُمْ وحدهم فريسة الموت وكل أنواع القتل ، تطاردهُم ليلاً نهاراً آلة الموت من الجو والبر والبحر ، كل الضغوط النفسية والإجتماعية والإقتصادية تغرس أنيابها بهم بلا رحمة ، حتى باتوا يخافون من خيالاتهم في ساعات الليل ، ويبحثون عن لقمة الأكل والمكان الآمن في ساعات النهار ، فقدوا ثمار العمر وكل تعب السنين الطويلة في رمشة عين ، ينتظرون قدر الموت في كل لحظة ، حتى بات الموت أقرب إليهم من حبل الوريد ، قَتَلوا فيهم أحلامهم وأطفالهم وتفاصيل ذكرياتهم الجميلة ودفء بيوتهم الآمنة ، وباتوا لا يشعرون بالأمن والأمان والثقة بالحياة والآخرين .

وترى اليوم القريبون والبعيدون والمتورّطون والمُتَفرّجون يُثنون على الثبات وبشائر الإنتصار ، ويتغنّون بالصمود دون النظر لسرعة قطار الموت ، ويُغَرّدون بكل اللغات وغزة تغفو على شهيدٍ وتصحو على جريح ، يغرقون في ذواتهم وينتظرون كيل المديح ، لا يرون الشيخ مُتعباً ومنهكاً ولا جثة الطفل الذبيح ، حتى باتوا لا يروا إلا ما أرادوه هُمْ في مشهد الحسابات الضيقة ، وهنا تكمن فظاعة الخيانة لحروف اللغة وقيمة الإنسان ، من خلال إسقاط مفردات الرغبات الضيقة على معاني الحقيقة الواسعة ، دون مراعاة الدم والجرح والدمار والفقد الفظيع ، فعندما تصبح حياة الإنسان رهينة ما بين العطب والشطب ، ويصبح الإنسان كارهاً للحياة بدلاً من حبّه لها ، تصبح كل الشعارات والخطابات لا معنى لها إذا لم تكن حياة الإنسان هي محرّكها ، ولا مُتَّسعٌ لها في ذهن من تَوَسَّد الموت ، ولا قيمة لصاحبها إذا ما أغفل عن قول الله تعالى في السعي لصون وحفظ حياة الإنسان والناس عامة .

ولكن طالما كان هناك نهجان مختلفان في الفكر والسلوك ، فحتماً ستختلف المفاهيم والرؤى بينهما ، فالمجتمع الواحد بأفكاره وأيديولوجياته المختلفة ، قد يتشعّب منه العديد من المفاهيم المرتبطة ببعض المفردات والمصطلحات ذات المعاني والدلالات للتعريف بها ، فمصطلح النصر والإنتصار كثيراً ما يتردد بين الناس أحزاباً ودول ، ولكن كلٌ منهم له تعريفه وفق مفهوم منظومته الأيديولوجية والدينية والسياسية ، فمثلاً إن ” الوطنية الفلسطينية ” تُعَرّف النصر والإنتصار بأنه مرتبط بالقضية الوطنية ومصالح الشعب ، ويُقاس دائما بمدى تحقيق خطواته الفعلية ذات الصلة بالحقوق الوطنية على كافة الصُعُد ، بينما مفهوم الإسلام السياسي في تعريف النصر والإنتصار بالنسبة لهم مختلف تماماً ، فهُم يُؤمنون بتعريفهم بأن النصر والإنتصار يُقاس بمدى الحفاظ على كيانهم الحزبي وإستمرارية وجودهم وبقائهم في الحُكم ، وخلاف ذلك من تبعات أخرى يبقى وفق حساباتهم من هوامش العمل ، ولذلك فإن كل الحروب السابقة على غزة حملت ما حملت من الويلات والدمار على شعبنا ، أما بالنسبة لمفهوم الإسلام السياسي القائم هناك في غزة ، كان يخرج بعد كل حرب مُهَلّلاً للنصر ونشوة إنتصار بقاء الذات ، ومن هنا فإن تعريف ” الوطنية الفلسطينية ” للنصر والإنتصار يندرج في إطار المفهوم الوطني الأصدق والأشمل والأبقى ، وليس أي تعريف أيديولوجي آخر يُقاس بالمصالح الحزبية الفئوية الضيقة ، ونسأل الله اللطف والسلامة والنصر لشعبنا .

قد يعجبك ايضا